قيمة الكلمة

ياما ناس برغم الموت تحت التراب عايشين في ساعة صفاء كنت استمع إلى مجموعة أغاني الفنان الشاب الملتزم {إيمان البحر درويش}..؛ وجدت هذه العبارة طريقا سلسا من أذني إلى قلبي، حيث وجدت لها مكانا رحبا، فما لبث القلب أن أرسل برسالة عاجلة إلى العقل ينبئه فيها أن مادة منعشة دخلت الجسم؛ فأرسل العقل أوامره على الفور إلى الأعضاء أن تبتهج وتفرغ ما فيها من إرهاق العمل والكد اليومي خارجا، فحصل بكل ذلك ما يمكن أن نسميه بـ(الطرب).

صحيح…كم دفعت الأرحام إلى هذه الأرض من أجساد؛ ملاين لا تعد ولا تحصى! فأين هم؟ أيما عزيز على الناس مات؛ تسابقوا لدفنه! وما أن يوارى الثرى حتى يَخْفٌتَ نجمه، ويضعف يوما بعد يوم بين الناس ذكره، حتى يصبح نسيا منسيا! إنها حقيقةٌ ومسلمة تذكر ولا تكاد تنكر، إذا هو الموت الذي رَغِمَتْ له الأنوف وزالت عند ملكه العروش، وتكسرت على ضفافه السفن والأشرعة.
فمن هم هؤلاء الذين هم برغم الموت تحت التراب عايشين؟  ما أعلمه أن الموت يُرْغِم ولا يُرْغَم!؟ حين فكرت مليا..وجدت بالفعل أن أناسا واراهم الثرى من سنين طويلة حتى كاد لا يبقي على أجسادهم من أثر؛ إلا أنهم أحياء بيننا، بل تذكرت أن البعض منهم أكثر حياة من أحياء لا معنى لحياتهم، إن منهم فنارات هداية وأدلاء خير، لهم بين الأحياء سيرةٌ ومنهاج، ونور هداية ومعرفةٌ للحائرين سراج.
رحمه الله؛ ذاك الذي أشعل في حياتي الثورة حين كنت شابا غضا مراهقا، حيث أهداني صديقٌ على القلب عزيز كتيباً يحمل عنوان (حسن ألبنا الرجل الذي أشعل الثورة) وما أن قرأت الكتيب حتى توقدت في قلبي وروحي الثورة، فشعرت بها تسري بين جوانح الروح، وتطير بي بأجنحة التحليق في سماوات الهمة، فما انطفأت شعلتها، ولا خبا نارها منذ ذلك الحين على الرغم من تعاقب السنين تتلوها السنون، مجرد كلمة تلتقي بأخواتها لتشكل جملة، ومجرد جملة تلتقي بأخواتها لتشكل مقالة أو حكاية أو قصة أو قصيدة…أو أو أو، كلمة تهدم؛ وأخرى تبني، وفي الآخر ماهي إلا كلمة!!!
رحمه الله؛ كم مثلي من أمم وأجيال أحيتها كلماته؟ وكم من أمم وأجيال ستحييها كلماته؟..
إنها قيمة الكلمة فالكاتب يفنى وكلماته خالدة في صفحات الزمن، وفي ذاكرة الأبد! فإن كانت في الصلاح والإصلاح صلحت وأصلح الله بها خلقا كثير، فتخلد بصاحبها تحت التراب برغم أنف الموت وسننه.
كل هذه المعاني أحيتها في نفسي كلمات أغنية إيمان البحر درويش، الغائب المغيب عن ساحة إعلامنا المرئي والمسموع، الذي شغله التشاغل، وانخرط في لعبة التظليل التي انتهجها حكامنا {الأشاوس} فما عاد لكل ما له معنا معنى! فليس من قيمة للكلمة؛ ولا وجود للطرب الأصيل، فماذا بعد أن تفقد الكلمة قيمتها؟ إلا أن يفقد الإنسان قيمته!..ومن ثم وجوده فيصبح عالة على الوجود والأحياء، أينما حل حل وراءه الدمار، حتى استعاذت منه طيور السماء وحيتان البحر وهوام الأرض!
الإنسان يعيش حياة واحدة على الأرض، وكل حياة تأتي بعد ذلك حسب ما أشارت إليه الكتب السماوية تتعلق بسيرة الإنسان ومسيرته في هذه الحياة الوحيدة؛ فهلا جعلناها حياة سعيدة؟ والسعادة تبدأ من هنا من قيمة الكلمة، تلك التي تحي الأمم وتوقظ الهمم.

أضف تعليق